لا أحد يستطيع الآن أن يحصي عدد دقات قلبه.. ولا أحد يستطيع أن يفهم لماذا تتجمع كل هذه الدموع في عينيه.. وحده كان يعرف أنها الدقائق الأخيرة من العمر.. كلمات الطبيب التي طمأنت الزوجة والأولاد لم تجعله يغير رأيه.. كانت أوراق العمر تتساقط.. وهاهي الورقة الأخيرة تذبل أمام عينيه.. فهل كان يبكيها.. أم أنه كان يبكي شيئاً آخر يصعب أن يأخذ في شرح تفاصيله خلال هذه الدقائق المتبقية.
أغمض عينيه، فغابت صورة الزوجة والأولاد ومن اجتمع من أقارب.. قال بصوت يكاد لا يبين "من منكم يستطيع أن يحضر برتقالة.. أي برتقالة"؟؟ نظر الجميع بدهشة واستغراب.. قال الولد الأكبر "ولكن يا أبي".. قال مقاطعاً الولد: "أعرف أنه ليس موسم البرتقال.. ولكن أريد برتقالة.. ليس سهلاً أن يموت الإنسان وليس في يده برتقالة" هزّ الجميع رؤوسهم غير مدركين.. لماذا يريد الوالد الذي بلغ السبعين برتقالة.. ظنت الزوجة أن رجلها أبا الخير يريد أن يقول شيئاً.. سألته هامسة "قل لي بالله عليك ماذا تريد"؟؟ فتح عينيه.. كانت الدموع تغرق كل شيء.. حاول أن يرى ملامحها بوضوح.. ولكن الدموع وضعف البصر منعاه.. قال "آه يا أم الخير.. تمنيت دائماً أن أموت هناك.. لماذا عليّ أن أموت بعيداً عن البيت والشارع.. والبيارة"؟؟ جاء السؤال مثل انفجار جعل الجميع يجفلون.. بينما أخذت أم الخير تبكي..
كان بودّه أن يضحك.. يتذكر أحياناً الشوارع والبيوت والوجوه والأشياء الصغيرة.. لا يصدق أن كل هذه السنوات قد مرت.. كأنه يمشي الآن في أحد الشوارع التي حفظها وعشقها وامتلأ برائحتها العطرة.. لم يكن مدركاً معنى الابتعاد عن فلسطين.. في السنوات الأولى كان يغمض عينيه ويرحل إلى هناك.. ثم أخذ يقترب من الحدود.. وبعدها شارك في عدة عمليات فدائية.. كان مصراً في كل مرة أن يموت هناك.. "الموت بعيداً عن أرض فلسطين موتان" هكذا كان يقول دائماً.. وحين أخذت سنوات العمر تشيخ شعر بيد تضغط على قلبه.. وفكر "سأموت بعيداً عن أرضها".. ولكن لا.. قالها وهو يرسم ابتسامة كبيرة ويترك السرير بشكل فاجأ الجميع وجعلهم يلتفون حوله..
كان مصراً على أنه سيذهب ليموت هناك.. الأيدي الكثيرة التي تجمعت أعادته إلى السرير ومددته كما كان.. أخذ يصرخ.. صاح "أنتهم لا تفهمون.. أريد أن أموت هناك" صاحت أم الخير "اتركوه بالله عليكم اتركوه.." وابتعدت الأيدي.. قام أبو الخير تاركاً سريره من جديد.. وضع قدميه في الحذاء بصعوبة ومضى.. تابعوه.. كانت خطواته مترنحة.. اقترب الأولاد ليساعدوه.. أبى بشكل غريب وتابع المسير.. فتح باب البيت.. وقف قليلاً.. سحب إلى رئتيه كمية كبيرة من الهواء.. صاح ببهجة "والله إنني أشم رائحة البرتقال" ضحك.. فامتد الضحك إلى كل الوجوه.. كان الشارع طويلاً.. مدّ خطواته.. تابعوه.. أخذت دقات القلب تضرب بشكل مريب.. ضاقت الأنفاس وتراخت العضلات.. أغمض عينيه.. وارتمى..
قال: "الدقائق امتدّت أكثر مما يجب" اطمأنت الزوجة عندما سمعت صوته وتوقفت عن البكاء.. مدّ يده بعد أن فتح عينيه وأمسك يدها.. قال "هناك التقينا أول مرة.. سنذهب إلى هناك" شعرت أم الخير بحرارة يده.. ثم ببرودتها.. وعرفت أم الخير بكل ما لديها من يقين حين أغمض عينيه للمرة الأخيرة أنه ذهب ليتجول في أحد الشوارع هناك وأنها لا بد أن تكون معه يدا بيد !! ..
أغمض عينيه، فغابت صورة الزوجة والأولاد ومن اجتمع من أقارب.. قال بصوت يكاد لا يبين "من منكم يستطيع أن يحضر برتقالة.. أي برتقالة"؟؟ نظر الجميع بدهشة واستغراب.. قال الولد الأكبر "ولكن يا أبي".. قال مقاطعاً الولد: "أعرف أنه ليس موسم البرتقال.. ولكن أريد برتقالة.. ليس سهلاً أن يموت الإنسان وليس في يده برتقالة" هزّ الجميع رؤوسهم غير مدركين.. لماذا يريد الوالد الذي بلغ السبعين برتقالة.. ظنت الزوجة أن رجلها أبا الخير يريد أن يقول شيئاً.. سألته هامسة "قل لي بالله عليك ماذا تريد"؟؟ فتح عينيه.. كانت الدموع تغرق كل شيء.. حاول أن يرى ملامحها بوضوح.. ولكن الدموع وضعف البصر منعاه.. قال "آه يا أم الخير.. تمنيت دائماً أن أموت هناك.. لماذا عليّ أن أموت بعيداً عن البيت والشارع.. والبيارة"؟؟ جاء السؤال مثل انفجار جعل الجميع يجفلون.. بينما أخذت أم الخير تبكي..
كان بودّه أن يضحك.. يتذكر أحياناً الشوارع والبيوت والوجوه والأشياء الصغيرة.. لا يصدق أن كل هذه السنوات قد مرت.. كأنه يمشي الآن في أحد الشوارع التي حفظها وعشقها وامتلأ برائحتها العطرة.. لم يكن مدركاً معنى الابتعاد عن فلسطين.. في السنوات الأولى كان يغمض عينيه ويرحل إلى هناك.. ثم أخذ يقترب من الحدود.. وبعدها شارك في عدة عمليات فدائية.. كان مصراً في كل مرة أن يموت هناك.. "الموت بعيداً عن أرض فلسطين موتان" هكذا كان يقول دائماً.. وحين أخذت سنوات العمر تشيخ شعر بيد تضغط على قلبه.. وفكر "سأموت بعيداً عن أرضها".. ولكن لا.. قالها وهو يرسم ابتسامة كبيرة ويترك السرير بشكل فاجأ الجميع وجعلهم يلتفون حوله..
كان مصراً على أنه سيذهب ليموت هناك.. الأيدي الكثيرة التي تجمعت أعادته إلى السرير ومددته كما كان.. أخذ يصرخ.. صاح "أنتهم لا تفهمون.. أريد أن أموت هناك" صاحت أم الخير "اتركوه بالله عليكم اتركوه.." وابتعدت الأيدي.. قام أبو الخير تاركاً سريره من جديد.. وضع قدميه في الحذاء بصعوبة ومضى.. تابعوه.. كانت خطواته مترنحة.. اقترب الأولاد ليساعدوه.. أبى بشكل غريب وتابع المسير.. فتح باب البيت.. وقف قليلاً.. سحب إلى رئتيه كمية كبيرة من الهواء.. صاح ببهجة "والله إنني أشم رائحة البرتقال" ضحك.. فامتد الضحك إلى كل الوجوه.. كان الشارع طويلاً.. مدّ خطواته.. تابعوه.. أخذت دقات القلب تضرب بشكل مريب.. ضاقت الأنفاس وتراخت العضلات.. أغمض عينيه.. وارتمى..
قال: "الدقائق امتدّت أكثر مما يجب" اطمأنت الزوجة عندما سمعت صوته وتوقفت عن البكاء.. مدّ يده بعد أن فتح عينيه وأمسك يدها.. قال "هناك التقينا أول مرة.. سنذهب إلى هناك" شعرت أم الخير بحرارة يده.. ثم ببرودتها.. وعرفت أم الخير بكل ما لديها من يقين حين أغمض عينيه للمرة الأخيرة أنه ذهب ليتجول في أحد الشوارع هناك وأنها لا بد أن تكون معه يدا بيد !! ..