مشايخ الدي فور D4 للاديب عبد الرحمن السعيد
مستشفى الملك فيصل التخصصي المشتهر بين الناس بـ«التخصصي» غني عن التعريف، وإمكاناته لا تخفى على ذي لب، ومن مصادر قوته أنه مؤسسة مستقلة.
هناك أقسام خاصة في هذا المستشفى، ومن هذه الأقسام قسم يطلق عليه «D4» ؛ وهو خاص بالمسؤولين الكبار في الدولة ومن «يشفع» لهم المسؤولون، ولكبار أهل العلم ممن ينطبق عليه وصف «سماحة» أو «فضيلة» أو ممن يصنفون بأنهم من «مشايخ البلاط».
مما يميز هذا القسم العناية الفائقة التي لا ترقى لـ«التشريفات» ولا تهبط إلى مستوى «الطبقة الكادحة» أو كما يحب أن يسميهم بعضهم «البولتاريا» بالرغم من أن هذا المستوى رفيع مقارنة بحال المستشفيات الحكومية، فما بالك بجناح الـ «D4»!
لكل مريض جناح صغير مستقل متكون من غرفتين : غرفة للمريض وغرفة للمرافق، وعدد الممرضات المسؤولات عن كل جناح متناسق مع عدد الأجنحة فمثلا يكون لكل جناحين ممرضة مختصة عكس الأقسام الباقية لكل عشرة أَسِرَّة ممرضة مختصة.
إذا دخل المريض هذا القسم يشعر بالتحسن قبل أن يبدأ الأطباء بالفحص!
كانت والدتي –رحمها الله- تعالج في هذا المستشفى لكونها مصابة –عافاني الله وإياكم- بمرض تليف الكبد، وقد حصلنا على أمر لدخولها المستشفى، وفي أحد الأيام أصيبت والدتي –رحمها الله- بإرهاق شديد حتى خشينا عليها فنقلناها إلى «الطوارئ» في المستشفى، وإذا القسم مكتظ قد التصق الناس بعضهم ببعض والناس تمور فتحدثنا مع المسؤول عن وضع والدتي –رحمها الله- فذكر لنا أن الأسرة ممتلئة وليس هناك أسرة شاغرة.
كتمنا ما في نفوسنا لكوننا أصحاب حاجة يستطيع المسؤول لَيَّ أذرعتنا كما يشاء؛ إذ نحن في موقف ضعف لا يمكننا معه أن ننبس ببنت شفة.
ركضت الدقائق جالبة معها الساعات وازداد تعب والدتي –رحمها الله- فحاولنا التحدث مع المدير المناوب؛ لكنه قد أحكم إغلاق مكتبه وجعل الناس في حسراتهم تتأوه.
من المواقف التي جعلتني أغير نظرتي في الحياة أم تحمل طفلتها والطفلة تبكي وتتألم حتى إنها لا تستطيع فتح عينيها من الألم؛ لأنها تحتاج إلى غسيل كلى فوري، فقال لها المسؤول بكل برود : ليس لدينا أسرة شاغرة، وحتى لو كانت لدينا فإننا لا نتعامل مع هذه الحالات!
صرخت الأم في وجهه وقالت : كل مستشفى يرفض استقبالها! ماذا أصنع بابنتي! دلني على أي مستشفى!
تركها المسؤول وهي تندب حظها، حينها تذكرت قول أبي العلاء المعري:
وإذا أَرَدْتمْ للبنينَ كرامةً *** فالحَزْمُ أَجمعُ تَرْكُهُمْ في الأَظْهُرِ
في هذه الأثناء دخل لاعب كرة يمشي على رجليه مبتسمًا وتحدث مرافقه مع الاستقبال وأخبره أن اللاعب مصاب بـ«الإنفلونزا» فرأيت بعيني اللاعب يتخطى المرضى المتبطحين في جنبات «الطوارئ» ويدخل إلى الإسعاف!
لم أتمالك نفسي فاتجهت أنا وأخي إلى المسؤول وقد استشطنا غضبًا فسألناه :
ألم تخبرنا بأنه ليس هناك أسرة شاغرة؟! فرد علينا مبتسمًا : هذا من الـ vip !
رأيت والدتي –رحمها الله- ممتدة على الأرض قد دخلت في غيبوبة وهذا اللاعب واثق الخطوة يمشي ملكًا فقلت للمسؤول : أعطني ملف والدتي وسنُقَسِّطُ ما أمكن من السيارات وندخلها في أحد المستشفيات الخاصة ولا تكون بهذه الحالة المزرية!
فقال : نظام المستشفى يمنع أن نزودكم بالملف!
قلنا له : المستشفى الخاص سيبدأ الفحص من جديد وسيأخذ وقتًا، وحالة والدتي كما ترى!
قال : لا يمكن.
وصل بي الأمر مبلغه، وخشيت أن أرتكب جناية في قسم «الطوارئ» فتركت المستشفى وقد أحاط أخي الأكبر وأختي الكبرى بوالدتي –رحمها الله- وهي ممتدة على الأرض خارج مبنى الإسعاف وذرات المطر تتساقط عليهم.
في اليوم التالي ذهبت إلى المدرسة وتحدثت مع بعض الزملاء عن الليلة الماضية وأخبرتهم أنني مستعد لدفع قيمة التأمين الصحي مقابل أن أحظى بكرامة إنسانية، فصرخ أحد المتخصصين في العلوم الشرعية وقال : لا يجوز! المشايخ يقولون : «لا يجوز التأمين الصحي».
قلت له : يا عزيزي، المشايخ إذا خدش جلده دخل الـ «D4» ووالدتي مصابة بغيبوبة ممتدة على الأرض خارج مبنى الإسعاف، أفهمت الفرق؟!
قال : ولو!
قلت له : أسأل الله أن يبتلك!
لعل هذه الدعوة وافقت ساعة إجابة، وأتى من الغد وهو متجهم الوجه، سألته : ما بك؟
قال : الليلة الماضية تعبت والدتي وذهبنا بها إلى مستشفى الملك فهد بالحرس الوطني، وأخبرونا أن ليس هناك سرير شاغر، فتوسلنا إليهم أن يرحمونا ويدخلوا والدتي، فقالوا : ليس هناك إمكان. وكان من حسن الحظ أن أختي تعرف طبيبة في المستشفى فشفعت هذه الطبيبة وتحدثت مع أحد الأقسام فأمنوا لها غرفة خاصة.
قال لي صاحبي : عرفت مقدار كلامك يا عبد الرحمن!
قلت له : بعد ماذا؟! هل يجب أن يمر كل شخص بالتجربة المؤلمة كي يقر بالحقيقة، ألم تقل لي بالأمس : «المشايخ يقولون : التأمين لا يجوز!».
المشايخ لهم قدرهم وفضلهم، ولهم اجتهاداتهم التي يصيبون فيها ويخطئون؛ فأتفق مع اجتهادات شيخ تنطبق الحالة علينا جميعًا كمن يحرم أسهم شركات ولا يتعامل بها، أو من يحرم أمرًا معينًا تنطبق الحالة عليه.
لكن أن يصاب الشيخ بالزكام فيدخل الـ «D4» ويدخل مواطن في غيبوبة ويكون ممتدًا أمام بوابة الطوارئ، ثم يقول الشيخ : «التأمين الصحي لا يجوز».
فهذا ما لا أقبله.
إذا رأيته ممتدًا أمام مبنى المستشفى والناس ينظرون إليه بعين الشفقة، وقد أحاط به أبناؤه يضربون أخماسًا في أسداس وهو يردد : «التأمين الصحي لا يحوز».
عندئذ يكون محل احترام عندي.
المصيبة العظمى أننا بين مشايخ الـ «D4» وبين أنظمة التأمين الصحي العقيمة التي لا تقبل التأمين لمن تجاوز الستين، وتستثني قائمة طويلة من الأمراض، ويبقى لك من التأمين علاج الزكام وتضميد الجروح.
عبدالحمن بن ناصر السعيد
http://www.awbd.net/article.php?a=41
7/5/1427هـ
مستشفى الملك فيصل التخصصي المشتهر بين الناس بـ«التخصصي» غني عن التعريف، وإمكاناته لا تخفى على ذي لب، ومن مصادر قوته أنه مؤسسة مستقلة.
هناك أقسام خاصة في هذا المستشفى، ومن هذه الأقسام قسم يطلق عليه «D4» ؛ وهو خاص بالمسؤولين الكبار في الدولة ومن «يشفع» لهم المسؤولون، ولكبار أهل العلم ممن ينطبق عليه وصف «سماحة» أو «فضيلة» أو ممن يصنفون بأنهم من «مشايخ البلاط».
مما يميز هذا القسم العناية الفائقة التي لا ترقى لـ«التشريفات» ولا تهبط إلى مستوى «الطبقة الكادحة» أو كما يحب أن يسميهم بعضهم «البولتاريا» بالرغم من أن هذا المستوى رفيع مقارنة بحال المستشفيات الحكومية، فما بالك بجناح الـ «D4»!
لكل مريض جناح صغير مستقل متكون من غرفتين : غرفة للمريض وغرفة للمرافق، وعدد الممرضات المسؤولات عن كل جناح متناسق مع عدد الأجنحة فمثلا يكون لكل جناحين ممرضة مختصة عكس الأقسام الباقية لكل عشرة أَسِرَّة ممرضة مختصة.
إذا دخل المريض هذا القسم يشعر بالتحسن قبل أن يبدأ الأطباء بالفحص!
كانت والدتي –رحمها الله- تعالج في هذا المستشفى لكونها مصابة –عافاني الله وإياكم- بمرض تليف الكبد، وقد حصلنا على أمر لدخولها المستشفى، وفي أحد الأيام أصيبت والدتي –رحمها الله- بإرهاق شديد حتى خشينا عليها فنقلناها إلى «الطوارئ» في المستشفى، وإذا القسم مكتظ قد التصق الناس بعضهم ببعض والناس تمور فتحدثنا مع المسؤول عن وضع والدتي –رحمها الله- فذكر لنا أن الأسرة ممتلئة وليس هناك أسرة شاغرة.
كتمنا ما في نفوسنا لكوننا أصحاب حاجة يستطيع المسؤول لَيَّ أذرعتنا كما يشاء؛ إذ نحن في موقف ضعف لا يمكننا معه أن ننبس ببنت شفة.
ركضت الدقائق جالبة معها الساعات وازداد تعب والدتي –رحمها الله- فحاولنا التحدث مع المدير المناوب؛ لكنه قد أحكم إغلاق مكتبه وجعل الناس في حسراتهم تتأوه.
من المواقف التي جعلتني أغير نظرتي في الحياة أم تحمل طفلتها والطفلة تبكي وتتألم حتى إنها لا تستطيع فتح عينيها من الألم؛ لأنها تحتاج إلى غسيل كلى فوري، فقال لها المسؤول بكل برود : ليس لدينا أسرة شاغرة، وحتى لو كانت لدينا فإننا لا نتعامل مع هذه الحالات!
صرخت الأم في وجهه وقالت : كل مستشفى يرفض استقبالها! ماذا أصنع بابنتي! دلني على أي مستشفى!
تركها المسؤول وهي تندب حظها، حينها تذكرت قول أبي العلاء المعري:
وإذا أَرَدْتمْ للبنينَ كرامةً *** فالحَزْمُ أَجمعُ تَرْكُهُمْ في الأَظْهُرِ
في هذه الأثناء دخل لاعب كرة يمشي على رجليه مبتسمًا وتحدث مرافقه مع الاستقبال وأخبره أن اللاعب مصاب بـ«الإنفلونزا» فرأيت بعيني اللاعب يتخطى المرضى المتبطحين في جنبات «الطوارئ» ويدخل إلى الإسعاف!
لم أتمالك نفسي فاتجهت أنا وأخي إلى المسؤول وقد استشطنا غضبًا فسألناه :
ألم تخبرنا بأنه ليس هناك أسرة شاغرة؟! فرد علينا مبتسمًا : هذا من الـ vip !
رأيت والدتي –رحمها الله- ممتدة على الأرض قد دخلت في غيبوبة وهذا اللاعب واثق الخطوة يمشي ملكًا فقلت للمسؤول : أعطني ملف والدتي وسنُقَسِّطُ ما أمكن من السيارات وندخلها في أحد المستشفيات الخاصة ولا تكون بهذه الحالة المزرية!
فقال : نظام المستشفى يمنع أن نزودكم بالملف!
قلنا له : المستشفى الخاص سيبدأ الفحص من جديد وسيأخذ وقتًا، وحالة والدتي كما ترى!
قال : لا يمكن.
وصل بي الأمر مبلغه، وخشيت أن أرتكب جناية في قسم «الطوارئ» فتركت المستشفى وقد أحاط أخي الأكبر وأختي الكبرى بوالدتي –رحمها الله- وهي ممتدة على الأرض خارج مبنى الإسعاف وذرات المطر تتساقط عليهم.
في اليوم التالي ذهبت إلى المدرسة وتحدثت مع بعض الزملاء عن الليلة الماضية وأخبرتهم أنني مستعد لدفع قيمة التأمين الصحي مقابل أن أحظى بكرامة إنسانية، فصرخ أحد المتخصصين في العلوم الشرعية وقال : لا يجوز! المشايخ يقولون : «لا يجوز التأمين الصحي».
قلت له : يا عزيزي، المشايخ إذا خدش جلده دخل الـ «D4» ووالدتي مصابة بغيبوبة ممتدة على الأرض خارج مبنى الإسعاف، أفهمت الفرق؟!
قال : ولو!
قلت له : أسأل الله أن يبتلك!
لعل هذه الدعوة وافقت ساعة إجابة، وأتى من الغد وهو متجهم الوجه، سألته : ما بك؟
قال : الليلة الماضية تعبت والدتي وذهبنا بها إلى مستشفى الملك فهد بالحرس الوطني، وأخبرونا أن ليس هناك سرير شاغر، فتوسلنا إليهم أن يرحمونا ويدخلوا والدتي، فقالوا : ليس هناك إمكان. وكان من حسن الحظ أن أختي تعرف طبيبة في المستشفى فشفعت هذه الطبيبة وتحدثت مع أحد الأقسام فأمنوا لها غرفة خاصة.
قال لي صاحبي : عرفت مقدار كلامك يا عبد الرحمن!
قلت له : بعد ماذا؟! هل يجب أن يمر كل شخص بالتجربة المؤلمة كي يقر بالحقيقة، ألم تقل لي بالأمس : «المشايخ يقولون : التأمين لا يجوز!».
المشايخ لهم قدرهم وفضلهم، ولهم اجتهاداتهم التي يصيبون فيها ويخطئون؛ فأتفق مع اجتهادات شيخ تنطبق الحالة علينا جميعًا كمن يحرم أسهم شركات ولا يتعامل بها، أو من يحرم أمرًا معينًا تنطبق الحالة عليه.
لكن أن يصاب الشيخ بالزكام فيدخل الـ «D4» ويدخل مواطن في غيبوبة ويكون ممتدًا أمام بوابة الطوارئ، ثم يقول الشيخ : «التأمين الصحي لا يجوز».
فهذا ما لا أقبله.
إذا رأيته ممتدًا أمام مبنى المستشفى والناس ينظرون إليه بعين الشفقة، وقد أحاط به أبناؤه يضربون أخماسًا في أسداس وهو يردد : «التأمين الصحي لا يحوز».
عندئذ يكون محل احترام عندي.
المصيبة العظمى أننا بين مشايخ الـ «D4» وبين أنظمة التأمين الصحي العقيمة التي لا تقبل التأمين لمن تجاوز الستين، وتستثني قائمة طويلة من الأمراض، ويبقى لك من التأمين علاج الزكام وتضميد الجروح.
عبدالحمن بن ناصر السعيد
http://www.awbd.net/article.php?a=41
7/5/1427هـ